تقليدُ الغالبِ ...
بقلم الدكتور عمران صبره الجازوي
" إنَّ المغلوبَ مولعٌ بتقليدِ الغالبِ " مقولةٌ لابن خلدون - رحمه الله - منذ قرونٍ عديدةٍ تعبّرُ عن حقيقةٍ مؤلمةٍ ، وتصفُ واقعاً مريراً إذ بعد انحسارِ المدِّ الحضاري الإسلامي ، ورجوعِ المسلمين القهقرى ، وتنازلهم عن الريادةِ والصدارةِ ، وهزائمهم المتنوعة ما بين عسكريةٍ ، وفكريةٍ ، وعلميةٍ ... قد أولعوا بتقليدِ الغالبِ الذي ظنَّ أن ببعده عن الله ، وشروده عن حظيرته الإلهيةِ ، وقطعِ صلته به قد حاز قصبَ السبق ، وبلغ الذروةَ في التقدمِ والتحضرِ ، وبتحرره من ربقةِ التكاليفِ الشرعية ، وتخليفها وراءه ظهرياً قد جاوزَ العلياءَ في الحريةِ والتمدنِ ، وذلك ظنُّ السوءِ الذي أرداهم ، وقطع صلتهم بربهم ، فأغلقوا أمام وحيه - الذي أُنزل ليحييهم - قلوبهم ، وأصمّوا دونه أسماعهم ، فعميت بصائرهم فما استضاءت بنوره ، ولا استرشدت بهداه ، واستعاضوا بالتشريعاتِ السماوية قوانينَ وضعية شُرعت لتناسبَ أقواماً دون آخرين ، وأسلموا زمامَ أمورهم للشيطانِ الرجيمِ ، فأمسك بمقودِ قافلتهم ، وهداها سبيل التيهِ والضلالِ ، فانبتت على إثرِ ذلك صلةُ الأرضِ بالسماءِ ، واختفى نورُ الوحي فلم يعدْ لهم منه حظٌّ باسترشادٍ أو استهداء ، فضاقت عليهم الأرضُ بما رحبت ، وسُجنوا داخلَ نفوسهم ، وبدا اعتلالها واضحاً للعيان ، وتفشّت فيهم الأمراضُ النفسيةُ ، والأدواءُ العقليةُ التي تحملُ صاحبها - عياذاً باللهِ - على التخلصِ من دنياه عن طريقِ الانتحارِ ، وإزهاقِ النفسِ التي جعلها الله - سبحانه وتعالى - خامسَ خمسةٍ أطبقت الشرائعُ السماويةُ على حفظها ، وعدمِ التجنيِّ عليها ، عُرفت في محيطِ الفكرِ الإسلاميِّ بـــ " الكليات الخمس " ، أو " الضروريات الخمس " ، وتتمثل فيما يلي : ( الدين - النفس - العقل - النسب - المال ) فبضياعِ دينهم بعبادة الشيطانِ والأوثانِ ، وتحكميهم للجبت والطاغوتِ أفسدوا دنياهم ، وأضاعوا آخرتهم ، إذ فسدت عقائدهم ، وآلوا على أنفسهم إفسادَ عقائد غيرهم ، وتفننوا في إذهابِ عقولهم بالمسكراتِ والخلدراتِ هروباً من مشاكلهم التي لا حدَّ لها من ناحيةٍ ، ومبالغةً في الاستمتاع بما حرّمَ اللهُ من ناحيةٍ أخرى .
ولم يقفْ الأمرُ عند هذا الحدِّ بل ولّوا وجوههم شطرِ أموالهم التي خوّلهم اللهُ إياها ، واستخلفهم فيها ، وسخّروها لإفسادِ البلادِ والعبادِ ، وأشعلوا في بلادنا نارَ الحروبِ ، وأذكوا جذوتها ، فأكلت الحروب أخضرنا ويابسنا ، وجعلوا من ذلك وسيلةً لابتزازِ أموالنا التي سلبوها منّا تارةً بإيدينا ، وأخرى بالاحتيالِ علينا .
وأما النسب فلم يكن بمعزلٍ عنهم ، أو بمأمنٍ منهم ، فأفسدوه أيضاً بالعلاقاتِ المحرّمة والمشبوهةِ ، فنشأ في مجتمعاتهم متّخذاتُ الأخدانِ ، وبائعاتُ الهوى ، ففشا فيهم الزنا ، وتبادلُ الزوجاتِ ، وماتت النخوةُ في نفوسهم ، وتجمّدَ دمُ الغيرةِ في عروقهم ، واختلطت أنسابهم ، وأدخلت نساؤهم عليهم من ليس منهم .... إلخ هذه الأمور التي يندى لها الجبين ، وتحزنُ لها النفسُ . وياللأسفِ لقد صدّروا لنا كل هذه الأوباء ، وأعدونا بتلك العلل والأدواءِ ، ووجدوا البابَ أمامهم مفتوحاً على مصراعيه ، وأعانهم على ذلك صنائعهم وربائبهم من المستغربين - الذين ولّوا وجوهم نحو الغرب ، وانبهروا بحضارته - والعلمانيين .
تعليقات
إرسال تعليق