بِمَ آذن مولده - ﷺ - ؟
بقلم الدكتور عمران صبره الجازوي
لقد كان النبي - ﷺ - آخر الأنبياءِ وخاتمهم في استقبال رسالة الله - عزَّ وجلَّ - إلى الناسِ ، وتلقت أذنه وحي السماءِ إليه ، واتصلت السماءُ بالأرضِ بين يديه ، وكان مولده - ﷺ - مؤذناً بأمورِ غيّرت مجرى التاريخِ ، وعدلت موازينه بعدما قُلبت رأساً على عقب ، وصححت مسارَ البشرية بعدما ضلت طريقها إلى الله ، فبِمَ آذن مولده - ﷺ - ؟
للإجابةِ على هذا السؤالِ أقولُ - وباللهِ التوفيق- :
لقد آذن مولده - ﷺ- بأمورٍ ، من أهمها ما يلي :
تطهيرِ نهرِ التوحيدِ الذي جرى من لدن آدم - عليه السلام - بدءاً ، وانتهى مصبّه عند نبينا محمد - ﷺ - ختاماً مما علق به من شوائبِ الشركِ ، وأدران الإلحادِ نتيجةً لاستهواءِ الشياطين للخلقِ من ناحيةٍ ، وتقليداً للآباءِ دونما دليلٍ من ناحيةٍ أخرى .
كما آذن مولده - ﷺ - بأن البشريةَ قد بلغت سنَّ الرشدِ فلم تحتج إلى أنبياءَ بعد نبينا- ﷺ - ؛ لاتسامِ رسالته بالعالمية إذ كان للعالمين نذيراً ، وصلاحِ شريعته الغرّاءِ لكلِ زمانٍ ومكانٍ إلى أن يرث اللهُ الأرضَ ومن عليها .
كما آذن مولده - ﷺ - ببزوغِ نجمِ أعظم حضارةٍ عرفها التاريخُ تلك الحضارة التي انطلقت من كتابِ ربها مستلهمةً لمنهجه ، ممتثلةً لأوامره ، مجتنبةً لنواهيه ، حاملةً مشاعلَ النورِ ليستضييء بها كلُّ من أرادَ الوصول إلى الله .
كما آذن مولده - ﷺ - بمجيئه رحمةً مهداةً ، ونعمةً مسداةً ، فكان - ﷺ - رحمةً للعالمين ، رحمةً للمؤمنين فكلُ من آمن به واتبعه دخل الجنة ، ورحمةً للمنافقين الذين بإظهارهم الإسلام ، وإبطانهم الكفر كان لهم ما للمسلمين ، وعليهم ما عليهم ، ورحمةً للكافرين إذ ببعثته رُفع عن الأرضِ عذابُ الاستئصال فلم يُهلكوا بصيحةٍ ولا برجفةٍ ولا بريحٍ صرصرٍ عاتيةٍ .... إلخ هذه العقوبات التي جوزي بها الأممُ السالفةُ .
كما آذن مولده - ﷺ - بانقضاءِ عهدِ الجاهليةِ بكلِ مساوئه من قطيعةِ الرحمِ ، والتناحرِ والتقاتلِ ، وسفكِ الدماء ، واستشراءِ الشرورِ بكافة أنواعها ، وأتى على بنيانه من القواعد ، فاستضاءت الدنيا بنورِ الإسلامِ بعدما كانت كحاطبِ ليلٍ يخبطُ خبطَ عشواء طيلةَ قرونٍ عديدةٍ ، وأزمنةٍ مديدة .
كما آذن مولده - ﷺ - بانتهاء العنصريةِ والتفاضلِ بين الناس على أساسِ الجنسِ ، أو القبيلةِ أو اللون .... إلخ ، وجعل التفاضل مردّه إلى تقوى الله كما قال تعالى : { إن أكرمكم عند الله أتقاكم .... } سورة الحجرات آية - 13 ، فخفّف من وطأةِ " الأنا " التي تعني الاستعلاءَ على الناسِ ، وبخسهم أشياءهم فلا فضل لعربيٍ - كما قال ﷺ - على عجميٍ ، ولا لعجميٍّ على عربيِّ، ولا لأبيضَ على أسودَ ، ولا لأسودَ على أبيضَ إلا بالتقوى ، الناسُ من آدم ، وآدمُ من ترابٍ .
كما آذن مولده - ﷺ - بإخراج العباد من عبادةِ العباد إلى عبادةِ رب العبادِ ، وزلزلةِ عروشِ الأكاسرةِ والقياصرةِ ، واندحارِ إمبراطورياتهم ، وتراجعها إلى الوراءِ متخلّيةً عن وصايتها على الأممِ الذين عبدّوا رجالهم ، واستحيوا نساءهم ؛ لتحلَّ محلّها خيرُ أمةٍ أُخرجت للناسِ تلك الأمة التي حملت لواءَ الدعوةِ إلى اللهِ متوّجةً بتاجِ العزةِ ، متزرةً بلباسِ العدلِ الذي لم يقتصر على أبنائها بل شمل جميعَ من أقلّتهم أرضُ الإسلامِ ، وأظلّتهم سماؤه ، وكانت عمامتهم أرحمَ من قبعاتِ الأحبارِ والرهبانِ .
كما آذن مولده - ﷺ - بأفولِ نجمِ رجالِ الدين ، وغروبِ شمسهم أولئك القوم الذين نصبّوا من أنفسهم خلفاءِ لله في الأرضِ ، وامتلكوا نواصيَ العباد ، واستحوذوا عليهم قائلين بلسانِ الحال : ما نريكم إلا ما نرى وما نهديكم إلا سبيل الرشاد ؛ فأسلموا إليهم زمامَ أمورهم ، وأوهموا الخلائق بأن الجنةَ والنارَ بإيديهم ، وأنَّ مغفرةَ الذنوبِ لهم لا لغيرهم ، وأحلّوا لهم الحرامَ فاستحلّوه ، وحرّموا عليهم الحلالَ فحرّموه ، فاتخذهم الناسُ أرباباً من دونِ الله ، فأكلوا أموالهم بالباطلِ ، فكان مجيئه - ﷺ - بمثابةِ الشمسِ التي أذابت جليدهم ، والنورِ الذي أذهبَ دياجيرهم .
كما آذن مولده - ﷺ - برفعةِ العلماءِ - مطلق الرفعة في الدنيا والآخرة - ، وجعلهم ورثةَ الأنبياءِ الذين لم يورّثوا ديناراً ولا درهماً ، وإنما ورّثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظٍ وافرٍ ، قال تعالى : { يرفعُ اللهُ الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلمَ درجات .... } سورة المجادلة آية - 11 فكُرّم العلماءُ مرتين في هذه الآية ؛ لأنهم دخلوا ضمناً في الذين آمنوا .
كما آذن مولده - ﷺ - بتكريمِ المرأةِ - أيما تكريمٍ - وتتوجيها ملكةً على عرشِ أسرتها بعد ما كانت ممتهنةً غايةَ الامتهانِ إذ كانت سلعةً تُباعُ وتُشترى لا يُقام لكرامتها وزنٌ ، ولا يُحسبُ لمشاعرها حسابٌ ، فجعل برّها كأمٍ سبباً لدخولِ الجنة ، والإحسان إليها كبنتٍ أو أختٍ ستراً وحجاباً من النارِ ، والظفرَ بها كزوجةٍ صالحةٍ خيَر ما رُزق المرءُ بعد تقوى الله ، وبها يكتملُ نصفَ الدين .
تعليقات
إرسال تعليق