كُورُونَا وإعادةُ الحساباتِ . بقلم الدكتور عمران صبره الجازوي

كُورُونَا وإعادةُ الحساباتِ . 
 
بقلم الدكتور عمران صبره الجازوي

" إنَّ للمحنِ - كما يقولُ ابن القيّمِ - آجالاً وأعماراً كأعمارِ ابن آدم لابد وأن تنتهي " ، فلكلِ أجلٍ كتابٌ ، وكلُ شيءٍ عندَ اللهِ - عزَّ وجلَّ - بمقدارِ ، سيرحلُ كورونا مصطحباً معه من قضى أجله ، وسيبقى من كان في عمرهِ بقيةٌ تمهله لإعادةِ حساباته من جديدٍ ، فيقفُ مع نفسه ساعةً معتبراً بما جرى ، معترفاً بضعفه وخضوعه لنواميسَ وقوانينَ إلهيةٍ لا يُستثنى منها أحدٌ ، ولا يُحابى فيها امرؤٌ لحسابِ آخر ، هذه النواميسُ ، وتلك القوانينُ التي تقفُ أدلةً باهراتٍ ، وبراهينَ ساطعاتٍ على ربوبيةِ اللهِ للكونِ وما فيه خضوعاً وإذعاناً ، وتسليماً وإيقاناً . 
فليقفْ المنكرون لربوبيته مع أنفسهم وقفةً كوقفةِ عكرمة بن أبي جهل - رضي الله عنه - عندما ذهب فارّاً من رسولِ اللهِ - ﷺ  - حين فتحَ مكةَ ، فذهبَ هارباً ، فركبَ البحرَ ليدخلَ الحبشةَ ، فجاءتهم ريحٌ عاصفٌ ، فقالَ القومُ بعضهم لبعضٍ : إنه لا يغني عنكم إلا أن ندعوَ اللهَ وحده ، فقال عكرمةُ في نفسه : واللهِ لئن كان لا ينفعُ في البحرِ غيره ، فإنه لا ينفعُ في البرِّ غيره ، اللهم لك عليَّ عهدٌ لئن أخرجتني منه لأذهبنَّ فأضعنَّ يدي في يده - يقصدُ رسولَ الله ﷺ - فلأجدنّه رءؤفاً رحيماً ، فخرجوا من البحرِ ، فرجعَ إلى رسولِ الله - ﷺ - فأسلمَ وحسنَ إسلامه - رضي الله عنه وأرضاه - فيأيها الملحدون ها قد تخلّت عنكم مدنياتكم المزعومةُ ، وحضاراتكم الموهومةُ ، وآلهتكم اللاتي نصبّتموها من دونِ اللهِ ، ولم تقفْ حائلاً بينكم وبينِ عذابهِ ، أو تشفعْ لكم في تخفيفِ وطأته عليكم ، فعودوا إليه ، واسكبوا العبراتِ بين يديه ، فبابُ التوبةِ والقبولِ مفتوحٌ على مصراعيهِ . 
وليقفْ المقصّرون في جنبِ اللهِ مع أنفسهم وقفةً عسى أن يتداركوا ما فاتهم الذين ما زالَ اللهُ ينادي بهم : حيّ على الصلاةِ ، فلمّا لم يجيبوه ، قال : صلّوا في رحالكم ، فصُدّوا عن الخطى إلى المساجدِ الذي يرفعُ اللهُ به الدرجاتِ ، ويحطُّ به الخطيئاتِ ، وصُدّوا عن مكوثهم في المساجدِ ، وانتظارِ الصلاةِ بعد الصلاةِ ، وكأنَّ اللهَ كره طاعتهم فثبّطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين ، وتعدّى شؤمُ تقصيرهم إلى غيرهم ممن تعلّقت قلوبهم بالمساجدِ ، الذين لو كانت لقلوبهم أجنحةٌ لحملتهم إليها . 
وليقفْ الغارقونَ في الذنوبِ ، مقتحمو الموبقاتِ ، مقترفو السيئاتِ وقفةً مع أنفسهم علّهم يندمون ، وعن خطايهم يقلعون ، وعلى عدمِ العودةِ إليها يعزمون ، فتُمحى بذلك عنهم ، وتُبدّلُ سيئاتهم حسناتِ ، وتتنزّلُ عليهم الرحماتُ . 
وليقفْ المتكبّرون مع أنفسهم وقفةً تنزلهم عن عروشِ عظمتهم ، وتخرجهم من حصونِ كبريائهم مقرّين بأنَّ الكبرياءَ رداءُ اللهِ ، والعظمةُ إزاره ، ومن نازعه واحداً منهما قذفه - عزَّ وجلَّ - في النارِ .
وليقفْ الظالمون مع أنفسهم وقفةً يعيدون فيها الحقوقَ إلى أصحابها ، ويردّون المظالمَ إلى أهلها متذكّرين قدرةَ اللهِ  عليهم إذا دعتهم قدرتهم إلى ظلمِ الناسِ ، وبخسهم أشياءهم ، فثمةَ لقاءٌ بين يدي ربِ العالمين يقتصُّ للجمّاءِ من القرناءِ ، وينتصفُ للمظلومِ من الظالمِ ، وعندَ اللهِ تجتمعُ الخصومُ . 
وليقفْ المراءون مع أنفسهم وقفةً عسى أن يضعوا الأمورَ في نصابها ، فيؤثرون رضا اللهِ على رضا الناسِ ، وثناءَ اللهِ على ثنائهم ، حتى لا يقدمون على اللهِ فى الآخرةِ ومالهم فيها من خلاقٍ ، ويجدون أعمالهم التي راءوا بها الناس ، وأشركوهم فيها مع اللهِ  كسرابٍ بقيعةٍ يحسبه الظمآنُ ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً ووجدَ اللهَ عنده فوفّاه حسابه . 

هذا غيضٌ من فيضٍ من وقفاتٍ تتعددُ بتعددِ واقفيها ، وتؤذنُ بمدى ابتعادهم عن اللهِ الذي لا ملجأ منه إلا إليه ، وهو الغنيُّ عنهم ، وهم أفقرُ الخلقِ إليه عسى أن يكونَ في ذلك ذكرى لمن كان له قلبٌ ، أو ألقى السمعَ وهو شهيدٌ .

تعليقات

المشاركات الشائعة