قصة قصيرةبعنوان:
****العودة من الموت*****
....تنساب السعادة من بين أيدينا كما تنساب المياه...
فالممسك بالسّعادة كمن يطمع في أن يغرف شربة ماء بغربال...
تتسرّب من بين أناملنا بنعومة دون أن نشعر،ونكتشف أنّنا فقدناها عندما تخيّم علينا غيمة الحزن المظلمة وتحتوينا بسوادها
القاتم اللّعين.
هكذا كانت تحدّث نفسها وهي تطل من نافذتها تنظر بعيدا في الأفق...تبحث عن هدوء فقدته منذ أن فارقها توأم روحها
ذاك الغائب الذي إختفى فجأة من حياتها دون أن تستوعب هذا الغياب أو يقبله كيانها.
قالوا أنّه مات لكنها لم ولن تصدّق ذلك فهو قد وعدها أن لا يفارقها مدى الحياة وهي تثق في كلامه،سيلتزم بوعده لها مهما كلّفه الأمر.
سناء،مهندسة معماريّة ذات ثمانية وعشرين ربيعًا تتمتّع بشخصيّة قويّة واثقة،لا تخلو من بعض المرح رغم الجدّيّة البادية على ملامحها،
مواصفات ورثتها عن والدها الذي توفي منذ ثلاث سنوات وترك في قلبها جرحًا ينزف فقد كان لها صديقا وأخا وسندا فهي وحيدته.
عاشت بعده فترة من الحزن والإنزواء،لا تختلط مع النّاس،تهتم فقط بعملها وبأمّها المريضة.
كانت تخرج يوميّا من البيت بعد أن تطمئنّ على والدتها،وتترك معها الممرّضة التي سبق وعيّنتها لترعى الحالة الصّحّيّة لأمّها وتشرف على علاجها وتسهر على راحتها.
تتنقل سناء بسيارتها الحمراء الصغيرة التي كانت أروع هديّة من
والدها في عيد ميلادها الخامس والعشرين،وتذهب إلى مكتبها فتقضي أغلب وقتها في العمل وتتناول وجبة الغداء هناك وتعود إلى البيت مساء.
كانت هوايتها الرسم وهي بارعة في ذلك وموهوبة.
خصّصت مشغلًا صغيرًا في مكتبها
مجهّز بكل أدوات الرّسم،تقضي فيه بعض الوقت كلما ضاقت بها الدّنيا...
فترسم ما تجود به قريحتها وما يترجم شعورها في تلك اللّحظة...
وكانت حياتها روتينيّة تسير على نفس الوتيرة يوميًّا...
ذات يوم وهي راجعة إلى البيت مساء تعطّلت سيّارتها فتوقّفت على جانب الطّريق وحاولت معرفة السّبب بلا فائدة فهي لا تفهم في هذه الأمور
فتناولت هاتفها من حقيبتها وإتّصلت بالميكانيكي الذي تتعامل معه عادة في صيانة سيارتها ولكنّه لم يجب على إتّصالاتها المتكرّرة.
الوقت تأخر والشمس شارفت على المغيب وهي بمفردها في هذه المنطقة البعيدة عن بيتها.
بدأ يساورها القلق وربما الخوف فإتّصلت بالممرّضة وإطمأنّت على وضع والدتها وهي في الحقيقة كانت تريد أن تسمع صوتا يؤنس وحشتها ويبدد خوفها قليلا.
كانت لا تزال تتحدث مع الممرضة عندما توقفت بجانبها سيارة سوداء سطحها مكشوف يقودها شاب...
قطعت الإتصال بسرعة وتوترت قليلا وتاهبت متّخذة وضع الدّفاع
بطريقة تلقائيّة وكأنّها ستتعرّض للهجوم...
ولكنّها إسترخت بسرعة وعادت لطبيعتها ما إن سمعت صوته وهو يقول:"مرحبا سيدتي،هل تحتاجين مساعدة؟"
كان صوته دافئا بطريقة غريبة،حتى أنّها شعرت بهذا الدّفء في أوصالها.
فأجابته وهي شاردة في ملامحه التي أسرت لُبّها والتي بدت لها مألوفة:"نعم لقد تعطلت السيارة ولا أعرف كيف أتصرّف"
ترجل من سيارته وسار بإتجاهها بكل الروعة التي تخيلتها يوما
بقدّه المتكامل وجسمه المتناسق وجماله الأخّاذ وتلك النظارات السوداء التي يبدو أنه نسي ان يخلعها رغم أنها بدأت تظلم...
اقترب من السيارة المعطّلة وألقى نظرة على المحرك ثم إلتفت إليها
وهو بصدد رفع النظارة عن عينيه،وقال:"هنالك عطل في المحرك يجب أن تتركيها هنا وترسلي الميكانيكي في الصباح"
وإستأنف حديثه عندما رأى ذاك الذهول الغريب الذي أصابها:"يسعدني أن أقلّك إلى حيث تشائين سيدتي"
سارت معه إلى سيارته وهي لا ترفع بصرها عنه ودلّته على وجهتها فانطلق وقد أصابته دهشة من حالتها فقد كانت دموعها تنهمر طول الطريق إلى أن توقفت أمام بناية ضخمة شعر أنه رآها من قبل لكنه أبعد هذه الفكرة من رأسه فهو لم يزر هذا البلد الا من اسبوعين فقط...
نزلت سناء من السيارة وأمسكته من يده وسحبته وهي تسير نحو مكتبها وهو يتبعها باستسلام وإستغراب...
دخلت مشغل الرسم ووقفت أمام لوحة مغطاة وسألته :"من أنت؟"
رغم أن السؤال كان صادما إلا أنه أجاب:"اسمي سامح"
فأجهشت بالبكاء وهي ترفع الغطاء عن اللوحة وتصرخ:"بل أنت عمر"
تقهقر قليلا ثم وقع على الأرض من شدة المفاجأة
"يا إلاهي...كيف يعقل هذا؟
لا لا مستحيل...هل أنا أحلم؟
وكأنني أقف أمام مرآة ...كيف؟
هذه أول مرة أدخل هذا المكان
من رسمني بهذه الدقة؟وكيف؟..."
تزاحمت كل هذه الأسئلة وطرقت مسامع سناء بقوة وعنف
فانهارت وجلست أمامه على الأرض وبدأت تحفز ذكرياته وتدعوها لتتحرر وتخرج لتسافر به إلى الماضي القريب وتسترجع معه هويته التي نسيها بعد تحطم الطائرة التي إستقلها في رحلته الأخيرة والتي أعلن بعدها نبأ وفاته.....
تعليقات
إرسال تعليق