عابرو سبيلٍ ... بقلم دكتور / عمران صبره الجازوي

عابرو سبيلٍ ... 

بقلم دكتور / عمران صبره الجازوي 

ثمة أناسٌ تشتعلُ نيرانُ الحقدِ والحسدِ في قلوبهم على إخوانهم من بني جلدتهم فلا تبقي في قلوبهم مكاناً لرحمةٍ ، أو منزلاً لرأفةٍ ، وتؤزهم على التدابر والتقاطعِ ، واستئصالِ أواصرِ القربى والمودّة ، فتسوء بذلك علاقتهم بربهم الذي يبغضُ الحسد والحاسدين ، ويكره الحقد والحاقدين قال تعالى : { أم يحسدون الناس على ما آتاهم اللهُ من فضله ... } سورة النساء  آية 54   ؛ لاعتراضهم على قسمته – سبحانه – لعباده { نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ... } سورة الزخرف  آية 32  كما تسوء علاقتهم بإخوانهم إذ لا يستطيعون أن يخفوا عنهم أحقادهم عليهم ، أو يستروا حسدهم لهم بالرغم من محاولاتهم المستميتة لذلك ، ولكن سرعان ما يفتضحُ أمرهم ، وتستبين خباياهم ، فتكلفُ الشيء ما أصعبه ! وكما يفشلُ هؤلاء الشرذمة في التظاهر بالحبِّ ، وتكلفِ الود يفشلُ إخوانهم – أيضاً -  في إرضائهم ؛ لأن الحاسدَ  - عياذاً بالله - لا يرضيه إلا زوالُ النعمة . قال معاويةُ بن أبي سفيان – رضي الله عنه - :"  كلُ الناس أستطيعُ أن أرضيه إلا حاسدَ نعمةٍ ، فإنه لا يرضيه إلا زوالها " ، وهم بهذا يتعبون غيرهم وأنفسهم في آنٍ واحدٍ إذ لا تهنأُ عيونهم بنومٍ ، ولا قلوبهم بسكينةٍ ؛ لأنهم اشتغلوا بغيرهم  ، وما هذا إلا لدنيا زائلةٍ ، وحياةٍ فانيةٍ لا تساوي عند الله جناحَ بعوضةٍ ، ولو ساوت ما سقى منها الكافرَ جرعةَ ماءٍ ، ولسنا مخلّدين فيها ؛ لأنه لم يُكتب لبشرٍ – كائناً من كان – فيها الخلد ، قال تعالى : { وما جعلنا لبشرٍ من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون }سورة الأنبياء آية 34  ، ولقد ضرب لنا الرسول - ﷺ - مثلَ الدنيا عندما قال – بأبي هو وأمي - : " مالي وللدنيا ، إنما مثلي ومثلُ الدنيا كمثلِ راكبٍ قال – من القيلولة – في ظلِّ شجرةٍ في يومٍ صائفٍ، ثم راح وتركها " وإذا كان النبي - ﷺ  -  عابرَ سبيلٍ ، فغيره من باب أولى . 
وإذا عُلم ذلك فما أسعدَ من جعلها وسيلةً للآخرة لا غايةً ، وطلّق التمسكَ بها ، والتنافسَ عليها ، وخرج منها بقلبٍ سليمٍ لا يحملُ حقداً ولا غلّاً ولا كرهاً ولا حسداً لأحدٍ بل يحملُ في قلبه المحبة للأنام ، ويتزرُ بالوئام ، ويتزينُ بالرضا عن حاله ؛ ليسعدَ في آخرته ومآله ، لا يمدُّ عينيه إلى ما مُتّع به غيره ، ويوقنُ تمامَ الإيقان بأن ما كان له فهو آتيه ، وما كان لغيره فلن يصلَ إليه ، ويرضى بما قسم اللهُ له ؛ لأن الخيرةَ فيما أختاره اللهُ ، ويعلمُ علمَ اليقين بأن قليلاً يكفيه خيرٌ من كثيرٍ يطغيه ، وقليلاً يؤدي شكره خيرٌ من كثيرٍ لا يطيقه ، وبهذا تغمره السعادةُ في حياته تلك الحياةُ التي يستصغرها في عينيه ، ويستبطئُ سيرها شوقاً للقاءِ مولاه الذي يحسنُ به الظن بأنه سيُكرم نزله ، ويسكنه جنته ، ودار مقامته ، ويلتقي بمن هم على شاكلته من أهل الجنة الذين وصفهم الله بقوله : { ونزعنا ما في صدورهم من غلٍّ تجري من تحتهم الأنهارُ ...} سورة الأعراف آية 43 .

فيا كلَ عابرِ سبيلٍ – وكلنا عابرو سبيل – أخرجوا الدنيا من قلوبكم ، واجعلوها غايةً لا وسيلةً ، وبدايةً لا نهايةً ، بدايةً لحياةٍ أبديةٍ ، ونعيمٍ ،  سرمديٍّ ، ولا تطبقوا أرجاءها حسداً وحقداً فتضيقَ عليكم بما رحبت ،  وتنافسوها كما تنافسها الذين من قبلكم فتهلككم كما أهلكتهم .

تعليقات

المشاركات الشائعة