الخطابُ الدينيُّ بين مُدّعيه ومُستغلّيه ...
بقلم الدكتور عمران صبره الجازوي
إنَّ المهتمين بقضايا الأمةِ الإسلاميةِ من حملةِ همومها المخلصين من أبنائها لتتفطّرُ قلوبهم كمداً ، وتذهبُ نفوسهم حسراتٍ لما آلَ إليه حالُ الخطابِ الديني ، ذلك الخطابُ الذي يشكو لله غربته بين المنتسبين إليه ، والمستغلّين إياه ، ولِمَ لا ؟ وهو قد يُناطُ أحياناً بأعناقِ رجالٍ ليسوا له بأهلٍ ؛ لقلةِ بصيرتهم في أمورِ دينهم من ناحيةٍ ، وخلّوهم من المادةِ العلميةِ ، وافتقادهم لآلياتِ الحوارِ والدعوةِ من ناحيةٍ أخرى .
ومن المؤسفِ أن تجدَ هولاء ممن تُفتحُ أمامهم أبوابُ الإعلامِ على مصراعيها ، وهم رؤوسٌ جُهّالٌ إذا سُئلوا أفتوا بغيرِ علمٍ ، فيضلّون أنفسهم ، ويضلّون غيرهم ، وهؤلاء يسيئون إلى الدينِ ولا يحسنون ؛ لأنهم يهرفون بما لا يعرفون ، والخوفُ على الدينِ من الأدعياءِ لا من الأعداء .
وإذا نظرت إلى الطرفِ المقابلِ تجد المستغلين إياه قد كثر سوادهم ، وسرت دعواهم في أبناءِ أمتنا الإسلاميةِ سريان النارِ في الهشيمِ ، واستفحل خطرهم ، واستشرى فسادهم إذ قد امتطوا ظهرَ الخطابِ الديني ، وأمسكوا بزمامهِ ليوجّهونه حيثُ شاءت أهواؤهم ؛ بغيةَ استقطابِ الشبابِ - عمادُ هذه الأمةِ ، ومصدرُ عزّها - إلى ما يدينون ، وتحزبيهم إلى ما يتحزبون ، وهؤلاء طرائق قدداً ، ففريقٌ منهم ألغوا عقولَ مريديهم وأتباعهم ، وأتوا بأمورٍ من عندياتِ أنفسهم ما أنزلَ اللهُ بها من سلطانٍ ، لا يدلُّ عليها نقلٌ صريحٌ ، ولا يتقبلها عقلٌ صحيحٌ ، وأُشرب ذلك في قلوبِ أتباعهم ، واعتقدوه ديناً ، والدينُ منه براءٌ ، وإذا ما نوقشوا قالوا : على أبوابنا سجد العقلُ ، ومن اعترض امترض ، ومن امترض انطرد .... إلخ .
وفريقٌ ثانٍ نصّبَوا من أنفسهم حُكّاماً على غيرهم ، وابتعثوا من قِبلِ أنفسهم رقباء على الناسِ معتقدين أن الله لم يهدِ سواهم ، وأنهم الناجون ومن عداهم هالكٌ ، ومن لم ينخرط في سلكهم ، أو لم يقف تحت لوائهم كافرٌ أو فاسقٌ أو ضالٌّ أو مبتدعٌ ، وما ذاك إلا لاستعلاء " الأنا " عندهم ، وتحجّرِ فكرهم ... ، وفريقٌ ثالثٌ أعلى من قيمةِ العقلِ ، وأنزله منزلةً فوق منزلته التي أنزله اللهُ إياها ، وجعله حاكماً على الشرعِ ، وردّوا إليه أمرَ التحسينِ والتقبيحِ ، فما حسّنه العقلُ فهو حسنٌ ، وما قبّحه العقلُ فهو قبيحٌ ، فأطلقوا له العنانَ ، وفتحوا له مجالاتٍ لا تؤهله إمكانياته للخوضِ فيها ، فجاوزوا به الحدَّ ، وأثنوا عليه بما لا يُحصى ولا يُعدُّ متناسين أنّ له حدوداً لا يتعداها ، ومجالاتٍ ليس له أن يتخطاها .
ومن الجديرِ بالذكرِ أنّ من استغلوا الخطابَ الديني لتحقيقِ مآربهم لا يحصون كثرةً ، ولا يتسعُ المجالُ لذكرهم في هذا المقال بيّد أنّ الأمرَ خطيرٌ ، وشرّه مستطيرٌ ، الأمرُ الذي يحتّم علينا تحديدَ ضوابط للخطابِ الديني ؛ ليؤتيَ ثماره المرجوةَ منه امتثالاً لأمره تعالى : { ادعُ إلى سبيلِ ربك بالحكمةِ والموعظةِ الحسنةِ وجادلهم بالتي هي أحسنُ ... } سورة النحل آية - ١٢٥، ومن أهم هذه الضوابط ما يلي :
- أن تكون منطلقاتُ الخطاب صحيحةً مستمدةً من الوحيين - القرآن الكريم وصحيحِ السنةِ النبويةِ - ؛ لأنهما العاصمان من الضلالِ .
- أن لا يتصدّرُ له إلا من هو أهله ممن هو على بصيرةٍ من دينه ، ويمتلكُ أدواتِ الحوارِ ، وتتوافرُ فيه شروطُ الداعيةِ إلى الله من الإلمامِ بأمورِ العقيدةِ ، وأحكامِ الشريعةِ الغرّاءِ ، وخاصةً فقه الأمرِ بالمعروفِ والنهيِ عن المنكرِ ، إذ الحاجةُ إليه ماسّةٌ - في زماننا - ، والضرورةُ إليه مُلحّةٌ .
- أن ينأى به عن الجماعاتِ والتحزباتِ التي ليست من الإسلامِ في شيءٍ ، فيكونُ الولاءُ والبراءُ على أساسِ العقيدةِ لا على أساسِ التحزبِ والتعصبِ لجماعةٍ ما دون غيرها ؛ لئلا نكون من الذين فرّقوا دينهم ، وكانوا شيعاً كلُ حزبٍ بما لديهم فرحون .
- الإخلاصُ في تبليغِ رسالةِ اللهِ ، وعدم اتخاذِ الدعوةِ مهنةً يُباعُ الدينُ من أجلِ المحافظة عليها .
تعليقات
إرسال تعليق