الجيْشُ الأبيضُ . بقلم الدكتور عمران صبره الجازوي

الجيْشُ الأبيضُ  . 
 
بقلم الدكتور عمران صبره الجازوي

   بينما أنا أُقلّبُ في صفحاتِ التاريخِ الإسلامي المشرقةِ الوضّاءةِ إذ وقفتُ على قصةٍ استرعت انتباهي ، وهالني عمقُ تفكيرِ أسلافنا العظام - رضي اللهُ عنهم - ، وربطهم بين المادياتِ والروحانياتِ ، والقصةُ كالتالي : 
كان الوزيرُ العالمُ الناصحُ نظامُ الملكِ الطوسي (ت:485هـ) وزيراً للملكِ ألب أرسلان أحدِ ملوكِ السلاجقةِ ، ووزيراً لولده من بعده الملكِ أبي الفتحِ ، فوشى به الوشاةُ إلى أبي الفتحِ «الملك» وأوغروا صدره عليه ؛ لإنفاقه على العلمِ والعلماءِ بسخاءٍ ، فلما دخلَ عليه الوزيرُ نظامُ الملكِ قال له الملكُ أبو الفتح :
 يا أبتِ، بلغني أنك تُخرجُ من بيوتِ الأموال كلَّ سنةٍ ستَ مئة ألفِ دينارٍ إلى مَنْ لا ينفعنا، ولا يُغني عنا - يعني العلماءَ وطلابَ العلمِ - ،  فبكى نظامُ الملكِ وقال : 
يا بُني، أنا شيخٌ أعجمي لو نُوديَ عليَّ فيمن يزيدُ لم أحفظْ (أي لم أساوِ) خمسة دنانير. وأنتَ غلامٌ تركيٌّ لو نُوديَ عليك عساك تحفظُ ثلاثين دينارًا، وأنت مشتغلٌ بلذاتك، منهمكٌ في شهواتك، وأكثُر ما يصعدُ إلى الله تعالى معاصيك دون طاعاتك ، وجيوشُك الذين تعدّهم للنوائبِ إذا احتشدوا كافحوا عنك بسيفٍ طوله ذراعان، وقوسٍ لا ينتهي مدى مرماه ثلاثَ مئةٍ ذراعٍ، وهم مع ذلك مستغرقون في المعاصي والخمورِ، والملاهي والمزمارِ والطنبورِ . وأنا أقمتُ لك جيشاً يُسمّى (جيشُ الليلِ)، إذا نامتْ جيوشُك ليلاً قامتْ جيوشُ الليلِ على أقدامهم صفوفاً بين يدي ربهم، فأرسلوا دموعهم، وأطلقوا بالدعاءِ ألسنتهم، ومدّوا إلى اللهِ أكفهم بالدعاءِ لك ولجيوشك، فأنت وجيوشُك في خفارتهم تعيشون، وبدعائهم تبيتون، وببركاتهم تُمطرون وتُرزقون، تمرقُ سهامهم إلى السماءِ السابعةِ بالدعاءِ والتضرعِ . فبكى أبو الفتحِ الملكُ بكاءً شديدًا ، ثم قال: شاباش يا أبتِ شاباش - عبارةٌ تدلُ على استحسانه لفعله - ، أكثرْ لي من هذا الجيشِ . 
وإذا جئنا إلى واقعنا المعاصرِ خاصةً في ظلِ الظروفِ الراهنةِ ، ومداهمةِ فيروس كورونا لمصرنا الحبيبةِ - حفظها اللهُ  - وجدنا أن اللهَ - سبحانه وتعالى - قد امتنَّ عليها بجيشينِ عظيمينِ ، الأول : يتمثلُ في قواتنا المسلحةِ - حفظهم الله - أولئك الجنودُ البواسلُ التي تزودُ عن حياضنا ، وترابطُ على ثغورنا ، وتقفُ بالمرصادِ لكلِ من تسوّلُ له نفسه - من أعدائنا الظاهرين بالخارجِ ، أو صنائعهم بالداخلِ - النيلَ من مصرَ وأمنها . 
والثاني : يتمثلُ في أصحابِ المعاطفِ البيضاءِ ، وكذلك الأيادي ، بالإضافةِ إلى القلوبِ الأكثر بياضاً ، وأعني بهم الأطباءَ ومعاونيهم الذين يحاربون أعداءً خفيةً ربما تكونُ أشدَّ بأساً ، وأكثرَ ضراوةً من أعدائنا الظاهرين ، ألا وهي الأمراضُ والأوبئةُ التي من شأنها أن تودي بحياةِ الشعوبِ ، ويقفون في وجهها بالمرصادِ ، جاعلينَ من جهودهم المضنيةِ ، ومواصلتهم الليلَ بالنهارِ حائلاً بينها وبينَ تفشّيها وانتشارها ، مُضحّينَ بأرواحهم في سبيلِ أداءِ رسالتهم التي نيطت بأعناقهم . 
فتحيةُ إجلالٍ وتقديرٍ لهذا الجيشِ الأبيضِ اعترافاً بفضلهم ، وإعجاباً بحسنِ بلائهم ، وصمودهم في مواجهةِ أعدائنا ، وعدمِ توليتهم الأدبار .
جيشنا الأبيضَ لا نستطيعُ مكافأتكم ، مع إسدائكم إلينا كبيرَ معروفٍ ، وقد قال رسولنا - ﷺ - : " من صنعَ إليكم معروفاً فكافئوه ، فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه  " رواه أبو داودُ والنسائي .  

   فها نحن نرفعُ أكفَّ الضراعةِ إلى ربنا وربكم سائلينه أن يحفظكم من بين أيديكم ومن خلفكم ، ومن فوقكم ومن تحتكم ، وأن ينصركم على أعدائنا وأعدائكم ، وأن يرزقكم رباطةَ الجأشِ ، وحسنَ البلاءِ إنه وليُّ ذلك والقادرُ عليه .

تعليقات

المشاركات الشائعة