واغربتاه ... بقلم الدكتور عمران صبره الجازوي

واغربتاه    ...


بقلم الدكتور عمران صبره الجازوي


لا أعدو الصوابَ إذا قلتُ بأن المغتربَ أشبهُ ما يكونُ بطائرٍ هجر عشّه بغضِ النظرِ عما إذا كان ذلك اختياراً ، أو اضطراراً ، فالنتيجةُ واحدةٌ ، والقواسمُ المشتركةُ بين المغتربين متعددةٌ كتجشمِ السفر ، وركوبِ أهواله ، ومكابدةِ ألم الفراقِ ، والشعورِ بالقلة بعد الكثرةِ ، والوحشةِ بعد الأنسِ ، والانكسارِ بعد الانتصار ... إلخ هذه الآلام التي يعتصرُ لها القلبُ ألماً ، ولا تقوى النفسُ على احتمالها ، بل تنوءُ بها ، وتجأرُ إلى ربها أن يمدّها بما يخففُ من وطأتها عليها بيد أن الأمرَ لا يقتصرُ على ذلك بل يتعداه إلى أمورٍ أخشاها - كمغتربٍ ذاق وبالَ غربته - من أهمها ما يلي : 

1- أخشى من ابتعادِ المسافات ، واتساعِ الفجواتِ بيني وبين ذاتي ، وتتغيرُ ملامحي حتى إذا ما نظرتُ إلى نفسي فلا أكادُ أراني ، بل أرى بحّاراً أتعبه طولُ السفرِ ، تاهت سفينته في بحرِ الضياعِ ، ولم تعرفْ لها شاطئاً ترسو عليه . 

2- أخشى أن ينقصَ برّي بأمي ، وأنا ما وُفقتُ في دنياي إلا برضاها عني ، وما أُلقي عليَّ لباسُ السترِ إلا بدعائها لي آناءَ الليلِ ، وأطرافَ النهار . 

3- أن تذبلَ - إن لم تكن - زهرةُ الشبابِ ، ويذهبَ أريجها ، فتفقدُ الحياةُ متعتها ، والعيشةُ لذتها . 

4- أن يطولَ ليلُ الغربةِ ، وأظلَّ أنتظرُ فجرَ العودةِ فلا يأتي ، وأغدو حاملاً لعصا الترحالِ على عاتقي ، ولا أجدُ لي واحةً ألقي فيها بهمومي التي أثقلت كاهلي . 

5- أن يتفرّقَ الصحابُ من حولي أيادي سبأ ، ويُفضُّ سوقُ أسمارنا بعد انتصابه ، وتصبحَ بضاعتنا مزجاةً فلا تجدُ لها آذاناً مصغيةً ، ولا نفوساً متقبلةَ ، ولا نجتمعُ إلا في المنامِ ، ولا نتجاذبُ أطرافَ الحديثِ إلا في الخَيّلةِ . 

6- أخشى أن تفتقدني طريقٌ مررتُ بها ، أو تنساني شجرةٌ قِلتُ - من القيلولة - تحت ظلها . 

هذا بعضُ ما أخشاه ، وأخشى ما أخشاه في غربةٍ لا أعلمُ متى ينتهي أجلها خاصةً وأن الأبابةَ - شدّةُ الحنينِ إلى الوطن - قد استفحلت ، وخارت قواي ، ووهن عزمي عن مقاومتها ، ورفعتُ في وجهِ طليعةِ جيشها رايةَ الاستسلام ، وانتفى فياا بيني وبينَ التكيّفِ على الغربةِ ااِنسجام والوئام ، فاللهم رحمةً من عندك تروي ظمأنا ، وطمأنينةً تسكنُ في قلوبنا حتى نعودَ إلى بلادنا وقد جبرت كسرنا ، وقوّيت ضعفنا ، وآتيتنا أجرَ السيّاحين الذين هاجروافي سبيلك ليجدوا مراغماً كثيراً وسعةً ؛ ليكفوا أنفسهم وذويهم مؤنتهم ، ولئلا يتركوهم عالةً يتكففون النّاسَ  .

تعليقات

المشاركات الشائعة